اقترب أدوبيس من تحوت على جدار المعبد وهمس فى أذنه: يا اله
الحكمة، ما تيجى نقرأ شوية فى الألواح اللى انت عمال تدون فيها بقالك آلاف السنين.
ابتسم تحوت ابتسامته الوقورة الموقرة، ومال على أدوبيس: هذه ألواح تحمل حساب
المصريين على مر الأزمنة. فقد دونت كل جلسة حساب لمصرى أمام الآلهة فى العالم
الآخر. قاطعه أدوبيس بصنعة لطافة: أنا أشرف على عملية التحنيط وآتى بقلبهم لأضعه
فى ميزان الاهة ماعت وأنت تدون وتدون. هل تذكر ذلك الرجل الذى مَثَل امام الميزان،
سَأَلَته الآله فأجاب أنه قتل الخارجين عن القانون. فاستفسرت الآلهة عن كيفية
تيَقُنه من حِيادهم عن الطريق القويم ليستحل دمهم؟ قال: اخبرنى ملوكى، اولاد
الآلهة، أولادكم. فردت الآلهة بملل: لا أولاد لنا على الأرض. طب قلبه فى الميزان،
وارتفعت ريشة ماعت، فأسلمتُه الى
عمعوت. ذلك الوحش البشع، الذى فرْتَك القلب بمخالبه الحادة، مخالب مزدوجة لأسد
وفرس نهر، ثم التهمه بأسنانه المدببة من رأس التمساح. منظر بشع ولحظة فارقة
للإنسان، ينتهى فيها تماماً وأبدياً.
تنهد
تحتوت لكن سرعان ما استرجع ابتسامته حين فكر فى ماعت، زوجته، إلاهة الحق والعدل
والنظام. ريحها خفيف كالريشة، وهى رمز الريشة. من اتبعها سلم، وخف قلبه عن وزن
ريشتها فى ميزان الحساب؛ ومن خان عهدها ندم، ثقل قلبه وانتهى أمره. قال: أتذكر ذلك
الفلاح الذى جِئت به، وكان معدماً. ظلت الآله تستجوبه ساعات طويلة. كان قد كذب
لتفادى بطش حاكم وسرق من فرط الجوع. انقسمت وقتها الآلهة بين من يراه جانى ومن رآه
مجنى عليه. حتى تَدخَلت وطلبت منه سرد اسماء الآلهة، فذكرها كلها، عندها خف قلبه
فى الميزان، وأثبت أنه على خلق طيب، فاصطحبته انت الى أوزوريس ليسكنه الجنة مع
زوجته وأحبائه فى عالم الخلود. ويهديه الأوجيبتى، ليلبوا كل طلباته.
قلب تحوت فى ألواحه حتى استوقفه ذلك العامل. كان عاملا محترفاً،
على مستوى مهنى مرموق وقد اشتهر وسط أترابه بمهارته فاحترموه. لكنه اكثر من شكوى زملائه لدى رئيس عمله. فكان السبب فى قطع عيش الكثير
منهم. نظرت الآله لبعض. تكلم تحوت وقال له: كان بوسعك ان تُقَوِمَهم اولا. فأنت
أكثر منهم مهنية وأرفع شئنا. رد العامل: وما شئنى بتقييمهم. أنا أهتم بما يخصنى
فقط ولا أدخل نفسى فيما لا يعنينى. وسقط القلب وطارت الريشة فى هواء القاعة فانقض
عمعوت وأنجز مهمته.
كان
هذا العامل ممن شيد المعبد الذى نحن مخلدون على جداره الآن. وقد صمد عمله ضد
الطبيعة والانسان الاف السنين. فرد تحوت بهدوء: لكنه أضر بزملاء كثيرون له وهو
يعلم انه ليس من خلق ماعِت شكوى العمال، كما ذُكِر فى كتابنا. كتاب الموتى المدون
فيه كل ما يجب ان يتجنبه الانسان فى الحياة وما عليه ان يفعل ليُحسِن أمام الآلهة
فى العالم الآخر. نظر تحوت على لوح آخر وشاور لأدوبيس على ضابط كان قد أبهر الجميع
فى القاعة. لم يوافق الضابط على التشنيع بأحد النبلاء وتسريب معلومات عنه لانه يقدس خصوصية الحياة ويقدس ماعِت. كان هذا
النبيل قد زادت تجارته وتوسع نفوذه لدرجة أقلقت الملك، فحاول ترهيبه عن طريق تسريب
معلومات عن انحرافاته. فوُضِع الظابط تحت ضغوط كثيرة لكنه رفض تقديم المعلومات
متبعاً خلق ماعِت. فكانت النتيجة إزاحته من موقعه. ارتفع قلبه فى الميزان وزغردت
ماعِت وسط القاعة، تهلل وجه الضابط وصافح أوزوريس فرحا ومرحبا بالأوجبيتى. ضحك
أنوبيس حين تذكر الآلهة ماعت وهى تزغرد. كانت من اللحظات النادرة على مر السنين
التى انفجرت كل الآلهة فى الضحك.
سحب
أنوبيس لوح آخر وقرأ اسم نبيل من النبلاء. كان ضخم الجسد قوى حين اقتاده الى
الميزان. وقف النبيل العزيز يرتجف من الخوف ويصرخ من الفزع. أقسم أنه أطعم
الفقير وكسى العارى أينما لقاهم. حاول أنوبيس تهدأته وطمأنته أن هذا من خلق ماعِت،
ثم سأله تحوت على ابن أخيه الذى مات ابوه وهو فى المهد، فجزع وبكا واسترحم وترجى.
لم يوفى بعهده لماعت حين تقاعس عن مساعدة اليتامى والأرامل. كان رجل يفعل
الخير، لا يكذب ويساعد الفقير، لكنه حقد على أخيه وطمع فى زوجته بعد ان مات، فحين
رفضت قُطع الرحم وتحجّر القلب. ففنى مع من فنى فى اللحظة والتو.
تسمر
تحوت امام لوح طويل مكتظ بالنقوش. لوح امحوتب. اول مهندس معمارى وأول طبيب
معروف بالاسم. نظر فى الأفق فأدرك أنوبيس أنه على مشارف محاسبة فارقة فى تاريخ
البشرية. اقترب أكثر وحين لحظ الاسم، ربت على كتف تحوت وقال: لو يعرف الانسان عظمة
هذا الرجل لتغير وجه الارض. تذكر أنوبيس حين أمسك بيد امحوتب يقوده الى ميزان
ماعت. كان امحوتب هادءا رصينا متواضعا كما عهده فى حياته الدنيا. بدأ امحوتب فى
شرح كيف صمم فكرة الهرم المدرج المكون من أكثر من مسطبة للملك زوسر. هذا الشكل
المبتكر الذى قرب تابوت الملك من السماء، ومن الآله. فقربه الملك منه فى القصر.
لكنه شغل كل وقت فراغه فى اختراع العقاقير الطبية لعلاج الكسور والأورام. ودونها
فى مخطوطات وحين تأكد من جدوى هذه العقاقير، فتح مدرسة لتعليم الطب فى ممفيس. جاء
اليها زوار ومرضى من شرق الأرض وغربها. كان تحوت فى الحساب يدون بدقة لمعرفته
برفعة مكانة امحوتب. هذا المهندس الطبيب الذى جاء الدنيا فى سلام وخرج منها فى
هدوء. وحول الناس مدرسته معبداً بعد موته. قام أوزوريس من مقعده وتقدم حتى وضع يده
على كتف امحوتب وهمس له: انت كنت نفعا للحى حين يضعف وللميت حين يلقى الاله. انت
قدمت الكثير للانسان من تطور عمراني وطبى وللحياة الاخرى من مقابر متطورة. قلبك لا
يوزن مع ريشة ماعِت. فقد نصبك المصريون اله. مكانك وسطنا هنا.
قامت
الآلهة كلها فى هذه اللحظة وصفقت لامحوتب الذى انحنى بتواضعه المعتاد وأتخذ مكانه
وسط القاعة. ربت تحوت على كتف أنوبيس وقال: ندر العظماء. ندر من تواضع وهو رفيع
المقام. ندر من عمل للدنيا والعالم الآخر. ندر من كَرَس حياته لمنفعة الناس. فنال
رضى الملوك وحُب الشعوب وخلود الإله. هذا هو امحوتب.
جاء
فلاش من سائح مخالفاً تعليمات المعبد، فشتت أفكارهما واعتدلا سريعاً فى وقفتهما.
لكن تحوت، اله الحكمة، لم يستطع منع نفسه من النظر للسائح بعين لائمة.

No comments:
Post a Comment