Sunday, January 12, 2014

لما كان الجنيه ورق

حلِمت بجدتى، فاستيقظت بابتسامة راضية وفتحت علبتى السرية حيث أجمع تذكارات من مختلف مراحل حياتى. أخذت أُدَعبس بها حتى وجدت مليماً كانت أعطته لى فى صغرى لكن لم يكن له قيمة وقتها. سرحت وتذكرت زجاجة الحاجة الساقعة ايام المدرسة لما كان سعرها عشرة قروش. عشرة قروش ورق؟ نعم عندى واحدة هنا. وجَدت الى جانبها جنيه ورق قد طوَيته ورميته على عجلة من كام سنة فقط، فظل الجنيه جديدا لكنه مكرمش. فردته على أمل أن يعود كالجديد. لكنه ارتج فى يدى حتى اننى تركته يسقط على الأرض من فرط الخضة. وسمعت صوت صراخ مكتوم وتحولت الحجرة الى ارض عراء على ضفاف نيل فسيح، يقف امامى تمثال شاهق يدب على الأرض فى زلازل سريعة متتابعة ويزعق فى غضب عارم. وأنا أجرى مفزوعة أحاول الاحتماء بأى شئ

فى وسط هذه الثورة، يتحرك تمثال آخر من مكانه بشئ من الهدوء والخفة يقترب من الأول ويلمسه فيهدأ ويسكن. يحتضن احدهما الآخر فأتبين ان احدهما وهو الأكبر، تمثال لفرعون ممن أستكانوا على الجنيه المصرى عقودا وعلى باب هذا المعبد آلاف السنين والآخر لملكة فرعونية لم أتعرف عليها. ظللت أتباعهما باهتمام وهم يميلون على صخرة وقد بدا لى انهما التقيا من بعد فُرقة من بعد أُلفة. واختبأتُ وراء صخرة أُنصت لما يدور بينهم

قال: كم اشتقت إليك يا نفرتارى، يا جميلة الجميلات فى كل أنحاء البلاد. كم اشتقت إليك. مرت السنين رتيبة، اعرف انك تقفين الى جنبى لكن لا أشعر بوجودك، وقد تحجر كل شئ بيننا وحولنا. ضحكت بعذوبة الفتاة المدللة وبادلته عبارات الغرام، تذكره بالذى مضى ليَغوصا معا فى ضحكات من ذكريات ماضيهما العتيق الدفين. ذكّرَته بأول يوم تقابلوا فيه فى بيت عائلتها النوبية الأصل. قال: وكيف انسى وقد أخفقَت كل محاولاتى ان أرفع عينى عن وجهك الجميل. ضحكت بدلال فقد عرفت انه الحب الخالد من أول لحظة.

قاما من جلستهما وتمشيا داخلين المعبد الكبير. لم يرفع رمسيس يده عن كتف زوجته. ودخلتُ ورائهم دون إحداث صوت. وقفا امام أنشودة معركة قادش. هذه اللوحة الهائلة التى اشرف على نقشها الملك رمسيس بنفسه. كانت ايام عصيبة، همست نفرتارى فى أسى. لكنها علّمَت العالم كيف تُدار الحروب لمصالح البلاد، لا لمصالح شخصية ولا لتخليد اسماء. احتد صوت رمسيس قليلا وهو يكلم نفسه: آه هذا ال'مواتِللى'، ملك الحيثيين، قد عانَدت وتشبثت خمسة عشرة عاماً من الحروب المتواصلة بين المصريين والحيثيين. كل ما كنت اريده انا هو استرجاع أراضى الدولة بعد ان فرط فيها هذا الأبله المدعو اخناتون فسيطرتم عليها انتم الحيثيون سنين طوال. لكنك عَنَدت وحارَبت وخَدَعت سنين طوال، اقتربت منه نفرتارى ودفسَت رأسها عند رقبته: كان هو يدافع ان ارض أجداده لتظل تحت سيادته. خمسة عشر عاماً من الدماء. قُتل مصريون وحيثيون كُثُر. كانت بحور الدماء تتصاعد والغضب فى البلاد يتصاعد ولا مكتسبات ولا انتصارات تُذكر. لم يكن هناك خيار غير معاهدة السلام. تنهد رمسيس وحوطتها بذراعيه: كان الفضل لك فى هذا السلام. فلتشهد الآلهة محاولاتك ومدائبتك على حقن الدماء ومتابعتك لكل بنودها حتى اتفقنا. تعيد وجهها الى اللوحة وقد اتسعت لتساع الحائط الكبير كله وتمر بالتفاصيل وتتذكر المجازر فتنزل دمعات صامتة من عينيها. لكن يقطع حبل أفكارها رمسيس عندما يشير الى جداريته وهو فوق عجلته الحربية وقد وهبه الإله رع يداً ثالثة يخرج بها الأقواس من الجراب المثبت على ظهره، ويداه تعملان بمهارته المعهودة فأصبح أسرع من البرق. قال: كانت هذه أعظم لحظات حياتى. كنت احشد الأسرى والجرحى عشرات كل دقيقة. أحسستُ وقتها اننى أقوى رجل على الأرض.

اعتدلت نفرتارى فى جلستها وقالت له: انت أقوى واعظم رجل على الأرض. ويشهد هذا المكان على ذلك. تسحبه بنعومه من يده وتدخل به قدس الأقداس. وتسترسل: وقفت انت هنا، يوم ذكرى تتويجك على العرش، والشمس تنير وجهك. آية من آيات المعمار المصرى، تنتقل آشعة الشمس بين وجه الإله رع، ثم وجهك ووجه الإله آمون ويظل بتاح جالسا هنا فى الظلامهل نسيت انك أول ملك نَصَبَته الآلهة الهاً ورفعته الى جوارها؟ تبسم رمسيس فى رضا وسحبها بالقرب من قلبه ثانية. فاستكانت. هنا وقف النبلاء من رجال الجيش والكهنة والمثقفين يتقربون الى الآلهة وهم جنبا الى جنب، لم يفرق رمسيس فى المكانة والمعاملة بين أيهم. فهم النبلاء. هم من يحركون الاقتصاد فتروج التجارة والعمالة والفلاحة وهم من يشيعون الأمن فتستقر البلاد وهم من يحركون الروحانيات فيحثوا الناس على التفانى والإتقان. لذا وجب تقربهم منه وتقربهم من الشعب. فإن المثقفون هم من يُشكِلون الرأى العام. والكهنة هم من ينهضون بالمجتمع. ورجال الشرطة والجيش هم من يُقرِون الأمن والإستقرار. كلهم سر تحَضُر شعب رمسيس، وسر حب الشعب له. جاء صوت رخيم من خلفه فى قدس الأقداس يخطب فى الجموع بمناسبة حلول فصل لحصاد 'شيمو'، فينتشر من اصغر قاعات المعبد الى الأكبر فالأكبر حتى يصل الى الفناء الفسيح ليسمعه عامة الشعب وكأنه مكبر صوت معمارى. يصفق الجميع له، فقد أحب شعبه فأحبه وأخلص لهفهنأ الشعب وأمِنت النخبة وطال حكم رمسيس

اتجها ناحية باب المعبد. وقفا مليا يتأملان الجدارية عند المدخل ورمسيس يمسك بشعر اسراه من النوبة والحيثيين، جاءه هتاف شعبه من بعيد: اضرب بيد من حديد. فانتقلت ذاكرته آلاف السنين وهو يضرب ويضرب. والشعب يهلل ويعيد الهتاف. فيقطع أيدى الأسرى ليقدمها قرابيناً للآلهة. والشعب يُزَيط. ورمسيس يشعر بالانتشاء. كم هى عظيمة هذه القوة. كم هو عظيم ان ينتصر ويسحق العدو. ونفرتارى الى جانبه، تهمس: كان يجب ان نَفقِد من أبنائنا الآلاف ومن أبناء آدم آلاف أُخَر حتى يتعلم الجميع ان كل شئ بالخناق الا المواطنة فهى بالاتفاق. مثلما سحقنا أسرى عدونا، سُحق جنودنا الأسرى عند العدو. وعندما عادوا الى أرض مصر بعد معاهدة السلام العظيمة التى أدرجتها مع الأعداء، كانوا قد قُطِعت ايديهم  فضاعت كل سنين التدريب علينا وضاع مستقبلهم العملى، وظلوا عالة على الدولة، يأخذون رواتب بلا انتاج ويتمنون الموت كل يوم. ليتك استبدلتهم بعد ان اكرمتهم فلا يشوه المخلوق كمال صنع الخالق. اطرأ رمسيس ثم امسك بيدها وسكت. هو يعرف ان الانسان يُقَدر القوة ويهابها. يعرف اليوفريا جيدا. ويعرف انها طبيعة الانسان. ويعرف زوجته حق المعرفة بمثلها العليا الرفيعة التى قدرها وأجلها


يعود رمسيس الى جلسته عن مدخل المعبد وتقف نفرتارى الى جانبه، تلتقى العيون فى صمت طويل، يحمل معانى الحب والاشتياق سويا. ثم يعتدلان، فيتحجران ثانية. امسك أنا الجنيه المفرود فى يدى فأكرمشه وأضعه فى العلبة سريعاً. رمسيس ونفرتارى؟

No comments:

Post a Comment