دخلت النادبات تندبن وتنوحن وتولولن. ثم انشقت عنهن البعض
راكعات على الأرض، يرفعن التراب بأيديهن وينثرونه فوق رؤوسهن. مات. مات. مات. تنوح
النواحات. مات. مات. مات الملك. تندب النادبات. والصراخ يزاحم الهواء والعفرة تخنق
النفوس. الكل متأثر والكل حزين لفراق الملك. الكهنة وقائد الجيش. النبلاء من
الكتاب والظباط. الكل يخنق دموعه فى عينيه فيحجب هذه الابتسامة الوحيدة الموحودة.
ابتسامة حتشبسوت.
فى وسط هذه الزوبعة، كان حلم حتشبسوت يتحول الى حقيقة. حلم حكم
مصر. طالما حلمت بهذا الصولجان. طالما تخيلت نفسها جالسة على العرش. عرش مصر.
وطالما انتظرت وخططت لهذه اللحظة. وهى الآن مستعدة كل الاستعداد. والسؤال الآن: هل
مصر مستعدة لحكم حتشبسوت؟ لا تهمها الاجابة فهى أعدت العدة وجاهزة للنزال. أخفت ابتسامتها
سريعا تحت ستار الحزن الزائف. وتركت دموعا تنذرف على وجنتيها المعبئتين بالكحل. لم
يعرف الحضور اذا كانت دموع حزن ام دموع فرح. لكن آثار الكحل السايح أثبتت التأثر
وانتهى الأمر.
انصرف الجميع وجلست تعد العدة. حتى يتثنى لها الوصول الى الحكم،
يجب ان تحصل على ثلالث: صولجان الحكم، ومفتاح الحياة وعمود دجيب. لكن قبل التفرغ
لتحصيلهم، يجب ان تزيح من طريقهاابن الملك، الحاكم الشرعى للبلاد. فأعلنت
ان يجب إرسال تحتمس لتعلم فنون القتال حتى يؤهل لحكم البلاد. وتنفست الصعداء فجلست
تنصب شباكها بحبكة وحكمة.
أمرت الى النبلاء ان يحضروها. دعتهم الى حفل عظيم مقنن بلون
الحداد، ينُم ضِمنيا على مميزات كثيرة وخير اكثر فى انتظارهم. طلبت اليهم توزيع
'الزيت والسكر' على الرعايا باسم حتشبسوت، ملكة مصر. طلبت منهم إغداق الناس
بالعطايا حتى يميلون لها ويرتضون حكمها. وشرعت فى الحديث عن تجارات مربحة تمع بلاد
بونت نتظر اولاد الذوات، سوف تزيد الثروات ويعم الخير على الجميع. لمعت فكرة
التجارة فى سماء النبلاء. فمصر بلد زراعية وصناعية من الدرجة الأولى، التوسع فى
التجارة يجعل منهم رجال اعمال ويزيد ثرواتهم. خرجوا من القصر فى سعادة عارمة
وبدأوا فى تنفيذ الأوامر وآغداق العمال والفلاحين بالزيت والسكر باسم حتشبسوت.
وجدت فى يدها صولجان الحكم.
توجهت الى المعبد حيث التقت بالكاهن المقرب لها. لقد بدأ لتوهه
الثلاث اشهر المقررة سنويا فى عمله بالمعبد ولابد ان ينهوا تنفيذ الخطة قبل تفرغه
للزراعة باقى السنة. همست له بأن جاء وقت التنفيذ وانه لا مجال للتراجع. وحددوا
موعد رأس السنة الفرعونية للإعلان للشعب ان حتشبسوت هى ابنة الرب وان حكمها لمصر
هو امر الاهى لابد ان ينصاع له المصريين. كانت فكرة جهنمية قد بدرت لهذه المرأة
الذكية، وطاوعها الكاهن لما يعرف عنها من سخاء واغداق على من يواليها. وفى اليوم
المنشود، دخل المصريون المعبد، كل يحمل كيس شعير جديد قد أهدته إياه حتشبسوت
استهلالا للسنة الجديدة. استمعوا الى خطاب الكاهن وهللوا وصفقوا له. فتشجعت
حتشبسوت ودخلت تلقى أول كلمة كملكة من قدس الأقداس. هلل الشعب للملكة فأعادت الإغداق
عليهم بالعيش والنبيذ حتى اكتفوا وغادروا المعبد ينشدون ويحلفون بالملكة الجديدة. وجدت فى يدها مفتاح الحياة. ينم عن حكم يدوم مدى الحياة.
استأذن قائد الجيوش عليها الدخول، فأذنت له. أعلمها انه راضٍ
على ردود أفعال النبلاء والشعب وأن الآلهة نصبتها حاكمة للبلاد. فهمت ما يقصد
وافرجت عن ابتسامة كبيرة شملت الحياة الدنيا والآخرة معا. قالت له: انت من
المقربين. الجنود قد انهكوا فى حروب متكررة السنين الماضية، لذا فقد فكرت ان
استعين بهم فى تأمين قوافل التجارة مع بلاد بونت. كانت كلماتها مثل رنين الطبول فى
نفسه. قد تعب جيشه على مر السنين فى حروب على أراضى غريبة وفى بلاد أغرب،
التأمين عمل يسير وخيره كثير. لمعت النقود وانعكست ضوئها فى عينيه، فأطرق وابتسم
مرحباً وقام لينصرف. وجدت فى يدها عمود دجيب. رمز الاستقرار. الاستقرار على كرسى
الحكم.
أسرعت
حتشبسوت تحمل صولجان الحكم، ومفتاح الحياة وعمود دجيب الى معبدها، وقد بدأ
المهندس اعداد رسوماته. شيدت المقبرة على الضف الغربى لطيبة، تجاه غروب الشمس والحياة
الأخرى. بدأت تعطى التوجيهات للبناء: أريد أن تُحفر مقاليد حكمى على كل جدار فى
المعبد والمقبرة. وأن أُمَثَل على شكل رجل على جدار المعبد. المصريين لم يعتادوا
على حكم امرأة، فأنا أول امرأة تحكم مصر، لا اريد اى مصرى ان يشعر ان نظام الحكم
يتغيير، اريد المصريين أن يشعروا بالاستقرار. ثم أمرت برسمها كملك محارب كما تعود المصريون وتدوين التجارة
والرواج فى عهدها. فان التاريخ لن يراجع ورائها، لكنه سوف يقيمها. ظلت تحكم حتى ماتت حتشبسوت بالسرطان بعد طول فترة حكم مستقر.
دخلت
النادبات تندبن وتنوحن وتولولن. ثم انشقت عنهن البعض راكعات على الأرض، يرفعن
التراب بأيديهن وينثرونه فوق رؤوسهن. ماتت. ماتت. ماتت. تنوح النواحات. ماتت. ماتت. ماتت الملكة. تندب النادبات. والصراخ يزاحم الهواء والعفرة
تخنق النفوس. الكل متأثر والكل حزين لفراق الملك. الكهنة وقائد الجيش. النبلاء من
الكتاب والظباط. الكل يخنق دموعه فى عينيه فيحجبه هذه الابتسامة الوحيدة الموحودة.
ابتسامة تحتمس.
حتشبسوت،
يا حتشبسوت، قفلوا عليكى يا حلوة تابوت.

No comments:
Post a Comment