Thursday, January 16, 2014

مقابلات امحوتب

فتح باب المقبرة بعد ان تأكد ان كل تفصيلة من تشييدها قد أُتِم على أكمل حال. لم يعرف كم من الوقت أخذ هذا العمل الشاق. لكنه يذكُر عندما طلبه الملك زوسر وأمره أن يبدأ فى تشييد مقبرة تكون نقلة حضارية فى تاريخ الانسان. وقتها، نزل يجوب الحقول الخضراء باحثا عن الفكرة. بعد أيام، ضاقت به الدنيا فرفع رأسه يطلب العون من السماء. ليته يمد يده فيطول السماء ويحادث الآلهة ويستشيرهم. يطول السماء؟ وهنا جاءت الفكرة. السماء. يجب رفع المقبرة الى السماء، وأبعاده قدر المستطاع عن جوف الأرض. ولكن كيف؟ لو وضعت على شجرة لانكسرت ووقعت مع مرور الزمان. إذن لابد من بناء مسطبة تلو الأخرى على أرض مرتفعة والحفر داخلها حتى تكون مقبرة الملك. جهز الرسومات وقدمها للملك الذى استحسن الفكرة وبدأ العمل. اختار امحوتب امهر العمال وعرض عليهم مكافآت مجزية للقيام بالمهمة على أكمل وجه

وها هو ينتهى من عمله ويخرج للحياة. لكن. ماذا حدث؟ كيف تحولت الحجارة الجيرية الى زجاج لامع؟ من هؤلاء؟ وما هذا اللباس الغريب؟ اين النيل؟ وجد الناس من حوله يحدقون فيه كيفما يحدق فيهم. حاول الكلام لكنهم لم يفهموه ولم يفهمهم. هل ضللت ارض النيل؟ هل خرجت على بقعة أرض من حضارة أخرى؟ اين النيل؟ ظل يمشى، خرج فى الشارع. مبانى مبهرة وارض مستوية وعمارات عالية. كيف شيدوا كل هذا. وكيف يثبتوا الحجر فوق بعضه الى هذا الارتفاع فلا يسقط وينهار؟ رأى نهراً أمامه فهرع اليه: النيل. معقولة هذه مصر؟ لكنه فور لمسه ماء النهر أستوضح انه ليس على ارض مصر وهؤلاء ليسوا بمصريين. بل وهو فى زمن آخر ومكان آخر. جلس على جانب النهر يحاول تدبر أمره. حتى اقتربت منه فتاة شقراء وقالت له: هل استطيع التحدث معك؟ فهم ما قالت وذهل. فأعادت. هل تفهمنى؟ قال: نعم. فاستكملت: انا فرانسواز. باحثة فى علوم الآثار المصرية. لم يعرف كيف يقدم نفسه. هو معروف فى بلاده ولا يحتاج لتعريف نفسه. فهو مصرى. وهى تفهم ذلك. فرحب بها وسكت. لكنه استجمع فضوله وسألها: كيف تشيدون هذه المبانى العالية؟ قالت انها لا تعرف بالظبط لانها ليست مهندسة. لكن هناك مبان اكثر علو بعشرات الأضعاف فى بلدان أخرى. نظر اليها بذهول وسألها: هل هذه مقابر؟ ضحكت ولم يفهم لما تضحك فقالت: لا هذه، عمارات سكنية ومكاتب عمل ومحلات تجارية. قال: وأين المقابر؟ أوضحت له ان المقابر تكون عادة خارج المدينة وهى لا تتعدى حُفر فى الأرض وحجرة يكتب عليها اسم المرحوم. تعجب من كلامها: أتسكنون قرب السماء وتدفنون موتاكم تحت الأرض؟ فضحكت ثانية وقالت: ومن يهتم بالموتى؟ العلم الآن يركز على توفير أفضل حياة صحية وعملية وترفيهية وغيرها. الحياة اليوم قوامها العلم

سألها: ما هو اليوم؟ ردت انه الاول من شهر يناير سنة ٢٠٠٠ بعد الميلاد. لم يفهم اى ميلاد لكنه فهم انه فى عالم يسبقه على الاقل بألفى عام. قال: والآلهة؟ اى آلهة تعبدونها إذن؟ أعادت الضحك واستطردت: بعضنا يعبد اله واحد فى السماء ومعظمنا يركز على العلم فقط ليأخذ زمام الأمور فى يديه. فقد تعلمنا على مرور السنين ان الديانات تلجم العقل وتفرق الخلق وتعرقل التقدم. انظر الى بلادك الآن وما حدث لها من تخلف بعد رخاء وتراجع بعد تصدر للحضارة. لم يفهم ما علاقة ذلك والآلهة. الا تبارك الالهتهم التطوير والعلم؟ وقد استثمر عمره كله فى التطوير العمراني والطبى راجيا مقابلة طيبة مع أوزوريس فى العالم الآخر فيصاحبه الى جنة الخلد. كانت فرانسواز تعرف ما يدور بخلده، كما عرفت انه من مصر القديمة من هيأته، فأخذته من يده وعادت به الى متحف اللوفر ووقفت امام الأهرامات الزجاجية. أخبرته ان هذه الأهرامات وغيرها فى مصر وبلاد أخرى تستخدم كمزار سياحى الآن، يأتيه الزوار للفصحة والتنزه. وأن الناس هنا قد وصلوا الى القمر والكواكب الأخرى عن طريق مراكب فضائية. لكن الدافع لذلك الجهد هو تعمير الأرض والسيطرة على مفردات الحياة. بلا تدخل لأى اله

أراد أن يستفسر منها أكثر عن ماذا فعل الآله حتى يتم محوهم من الحياة. ولكنه أحس أنه حديث غير لائق. فسألها: كيف ارجع الى مكان وزمان ما جئت. طافت به بضع مرات حول الأهرامات الزجاجية حتى تحسست قطعة من الزجاج، فتحركت ودخل فيها الى الممر الصخرى ثانية

ظل يمشى آملاً ان يصل الى عالمه سالماً. وجد بابا ففتحه وأطل منه بحذر. رأى صحراء جرداء شاطت بزوبعة رملية ملأت فمه رملا فى ثوان. ظل مكانه حتى هدأت العاصفة وعَلّم المكان بالنجوم، فهو علامة فى الفلك.  دفعه فضوله للخروج. ووجد ماءاً يلمع عند مرمى البصر، فتبعه حتى انجلا وظهر فى ناحية أخرى فأدرك انه السراب. فاستكان حتى الليل واتبع النجوم. مر بقرية، ذات خيام منصوبة مثل عادة البدو فى الصحراء. يعرف هؤلاء القوم جيداً من سفراته للتجارة. اقترب وجلس حد الرجال. سألهم بما قد تعلمه من لغتهم عن تاريخ اليوم. فاستغربوا السؤال وقالوا الاول من ذى الحجة من عام الالف وأربع مائة بعد الهجرة. ففهم انه وقت بعده كذلك. سأل عن العقيدة. فأجاب كبيرهم أنهم موحدون والحمد لله. فأعجبه ان هؤلاء قد تمسكوا بآلهتهم. فسألهم عن الحياة الآخرى. فشرح الشيخ انهم يصلون ويذكرون ويزكون ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. فاستطاب كلامهم. وسإلهم عن سبب تمسكهم بالخيام وعدم اهتمامهم بالتطوير وتحسين ظروف الحياة. فقالوا هذا ما وجدنا عليه آبائنا. سألهم عن الطب والهندسة. فقالوا: تمسكنا بما وجدنا عليه آبائنا. فإن ديننا يقول ان كل ابتكار بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار. لذا نحن نتمسك بنهج السلف الصالح.


سلم عليهم وتركهم وهو يفكر كيف يتعارض التطوير والإبداع والتحديث مع ارادة الآله. يا لها من أزمنة عجيبة. إما يعطون الحياة الأولى حقها فيبنون حضارات عجب العجاب، إما يؤمون بالحياة الأخرى فيتجرون مكانهم على مر مئات السنين. ونحن الذين سبقناهم بآلاف السنين فهمنا اهمية تطوير وتحديث الحياة تقربا من الآلهة وابتغاءا حياة كريمة فى الحياة الأخرى

Wednesday, January 15, 2014

ريشة الإلهة ماعت

اقترب أدوبيس من تحوت على جدار المعبد وهمس فى أذنه: يا اله الحكمة، ما تيجى نقرأ شوية فى الألواح اللى انت عمال تدون فيها بقالك آلاف السنين. ابتسم تحوت ابتسامته الوقورة الموقرة، ومال على أدوبيس: هذه ألواح تحمل حساب المصريين على مر الأزمنة. فقد دونت كل جلسة حساب لمصرى أمام الآلهة فى العالم الآخر. قاطعه أدوبيس بصنعة لطافة: أنا أشرف على عملية التحنيط وآتى بقلبهم لأضعه فى ميزان الاهة ماعت وأنت تدون وتدون. هل تذكر ذلك الرجل الذى مَثَل امام الميزان، سَأَلَته الآله فأجاب أنه قتل الخارجين عن القانون. فاستفسرت الآلهة عن كيفية تيَقُنه من حِيادهم عن الطريق القويم ليستحل دمهم؟ قال: اخبرنى ملوكى، اولاد الآلهة، أولادكم. فردت الآلهة بملل: لا أولاد لنا على الأرض. طب قلبه فى الميزان، وارتفعت ريشة ماعت، فأسلمتُه الى عمعوت. ذلك الوحش البشع، الذى فرْتَك القلب بمخالبه الحادة، مخالب مزدوجة لأسد وفرس نهر، ثم التهمه بأسنانه المدببة من رأس التمساح. منظر بشع ولحظة فارقة للإنسان، ينتهى فيها تماماً وأبدياً.

تنهد تحتوت لكن سرعان ما استرجع ابتسامته حين فكر فى ماعت، زوجته، إلاهة الحق والعدل والنظام. ريحها خفيف كالريشة، وهى رمز الريشة. من اتبعها سلم، وخف قلبه عن وزن ريشتها فى ميزان الحساب؛ ومن خان عهدها ندم، ثقل قلبه وانتهى أمره. قال: أتذكر ذلك الفلاح الذى جِئت به، وكان معدماً. ظلت الآله تستجوبه ساعات طويلة. كان قد كذب لتفادى بطش حاكم وسرق من فرط الجوع. انقسمت وقتها الآلهة بين من يراه جانى ومن رآه مجنى عليه. حتى تَدخَلت وطلبت منه سرد اسماء الآلهة، فذكرها كلها، عندها خف قلبه فى الميزان، وأثبت أنه على خلق طيب، فاصطحبته انت الى أوزوريس ليسكنه الجنة مع زوجته وأحبائه فى عالم الخلود. ويهديه الأوجيبتى، ليلبوا كل طلباته.

قلب تحوت فى ألواحه حتى استوقفه ذلك العامل. كان عاملا محترفاً، على مستوى مهنى مرموق وقد اشتهر وسط أترابه بمهارته فاحترموه. لكنه اكثر من شكوى زملائه لدى رئيس عمله. فكان السبب فى قطع عيش الكثير منهم. نظرت الآله لبعض. تكلم تحوت وقال له: كان بوسعك ان تُقَوِمَهم اولا. فأنت أكثر منهم مهنية وأرفع شئنا. رد العامل: وما شئنى بتقييمهم. أنا أهتم بما يخصنى فقط ولا أدخل نفسى فيما لا يعنينى. وسقط القلب وطارت الريشة فى هواء القاعة فانقض عمعوت وأنجز مهمته

كان هذا العامل ممن شيد المعبد الذى نحن مخلدون على جداره الآن. وقد صمد عمله ضد الطبيعة والانسان الاف السنين. فرد تحوت بهدوء: لكنه أضر بزملاء كثيرون له وهو يعلم انه ليس من خلق ماعِت شكوى العمال، كما ذُكِر فى كتابنا. كتاب الموتى المدون فيه كل ما يجب ان يتجنبه الانسان فى الحياة وما عليه ان يفعل ليُحسِن أمام الآلهة فى العالم الآخر. نظر تحوت على لوح آخر وشاور لأدوبيس على ضابط كان قد أبهر الجميع فى القاعة. لم يوافق الضابط على التشنيع بأحد النبلاء وتسريب معلومات عنه لانه يقدس خصوصية الحياة ويقدس ماعِت. كان هذا النبيل قد زادت تجارته وتوسع نفوذه لدرجة أقلقت الملك، فحاول ترهيبه عن طريق تسريب معلومات عن انحرافاته. فوُضِع الظابط تحت ضغوط كثيرة لكنه رفض تقديم المعلومات متبعاً خلق ماعِت. فكانت النتيجة إزاحته من موقعه. ارتفع قلبه فى الميزان وزغردت ماعِت وسط القاعة، تهلل وجه الضابط وصافح أوزوريس فرحا ومرحبا بالأوجبيتى. ضحك أنوبيس حين تذكر الآلهة ماعت وهى تزغرد. كانت من اللحظات النادرة على مر السنين التى انفجرت كل الآلهة فى الضحك

سحب أنوبيس لوح آخر وقرأ اسم نبيل من النبلاء. كان ضخم الجسد قوى حين اقتاده الى الميزان. وقف النبيل العزيز يرتجف من الخوف ويصرخ من الفزع. أقسم أنه أطعم الفقير وكسى العارى أينما لقاهم. حاول أنوبيس تهدأته وطمأنته أن هذا من خلق ماعِت، ثم سأله تحوت على ابن أخيه الذى مات ابوه وهو فى المهد، فجزع وبكا واسترحم وترجى. لم يوفى بعهده لماعت حين تقاعس عن مساعدة اليتامى والأرامل. كان رجل يفعل الخير، لا يكذب ويساعد الفقير، لكنه حقد على أخيه وطمع فى زوجته بعد ان مات، فحين رفضت قُطع الرحم وتحجّر القلب. ففنى مع من فنى فى اللحظة والتو.  

تسمر تحوت امام لوح طويل مكتظ بالنقوش. لوح امحوتب. اول مهندس معمارى وأول طبيب معروف بالاسم. نظر فى الأفق فأدرك أنوبيس أنه على مشارف محاسبة فارقة فى تاريخ البشرية. اقترب أكثر وحين لحظ الاسم، ربت على كتف تحوت وقال: لو يعرف الانسان عظمة هذا الرجل لتغير وجه الارض. تذكر أنوبيس حين أمسك بيد امحوتب يقوده الى ميزان ماعت. كان امحوتب هادءا رصينا متواضعا كما عهده فى حياته الدنيا. بدأ امحوتب فى شرح كيف صمم فكرة الهرم المدرج المكون من أكثر من مسطبة للملك زوسر. هذا الشكل المبتكر الذى قرب تابوت الملك من السماء، ومن الآله. فقربه الملك منه فى القصر. لكنه شغل كل وقت فراغه فى اختراع العقاقير الطبية لعلاج الكسور والأورام. ودونها فى مخطوطات وحين تأكد من جدوى هذه العقاقير، فتح مدرسة لتعليم الطب فى ممفيس. جاء اليها زوار ومرضى من شرق الأرض وغربها. كان تحوت فى الحساب يدون بدقة لمعرفته برفعة مكانة امحوتب. هذا المهندس الطبيب الذى جاء الدنيا فى سلام وخرج منها فى هدوء. وحول الناس مدرسته معبداً بعد موته. قام أوزوريس من مقعده وتقدم حتى وضع يده على كتف امحوتب وهمس له: انت كنت نفعا للحى حين يضعف وللميت حين يلقى الاله. انت قدمت الكثير للانسان من تطور عمراني وطبى وللحياة الاخرى من مقابر متطورة. قلبك لا يوزن مع ريشة ماعِت. فقد نصبك المصريون اله. مكانك وسطنا هنا

قامت الآلهة كلها فى هذه اللحظة وصفقت لامحوتب الذى انحنى بتواضعه المعتاد وأتخذ مكانه وسط القاعة. ربت تحوت على كتف أنوبيس وقال: ندر العظماء. ندر من تواضع وهو رفيع المقام. ندر من عمل للدنيا والعالم الآخر. ندر من كَرَس حياته لمنفعة الناس. فنال رضى الملوك وحُب الشعوب وخلود الإله. هذا هو امحوتب


جاء فلاش من سائح مخالفاً تعليمات المعبد، فشتت أفكارهما واعتدلا سريعاً فى وقفتهما. لكن تحوت، اله الحكمة، لم يستطع منع نفسه من النظر للسائح بعين لائمة

Tuesday, January 14, 2014

مقتل سَت


الشوارع اكتظت بأكوام الزبالة. النيل امتلأ بجثث الحيوانات الموتى. المنازل ضاقت بسكانها بافترشوا الأرصفة. الهواء تلوث من فرط الحرائق. الدكاكين صدأت من قلة التجارة. البضاعة نشفت من قلة البيع. الفلوس نفذت من غلو الأسعار. الضرائب زادت وغطت. الأشجار عجفت من ندرة الماء. الأراضى بارت من فعل الحرائق. جاعت الناس. تصارعت على لقمة العيش. ضاقت بهم الحياة، فتخلوا عن كل الفضائل. تصاعدت رائحة العطن من الشوارع والأفواه. تصاعدت رائحة النتانة من المياة والنفوسسقط النظام وحلت الفوضى

وقف على حافة شرفته يتأمل المدينة. لاحظ سحابة سوداء تتصاعد من الحقول. تسائل كيف قضى هؤلاء الفلاحون على الحقول فى هذه الفترة الوجيزة؟ انه الجهل والتخلف. شعب جاهل ومتخلف. حين اغتصب مقاليد الحكم، أمر سَت بزيادة ضرائب المحصول. أمر جنوده بحرق اى حقل يتخلف صاحبه عن دفع الضرائب الجديدة ولو ليوم واحد. ومن يومها وسماء المدينة مُفعمة بالغمامات السوداء. ماذا يظن هذا الشعب؟ انه سوف ينعم بعيش رغد دون ان يدفع الثمن؟ هو دائماً يُعَوِل على الحاكم فى كل شئ. وكيف يلبى الحاكم مطالب الشعب اذا لم يفى بالضرائب. نظر طويلاً الى النيل. شريان الحياة. ما له ملوث أسود اللون؟ حتى النيل قد كرهنى وفضل أخى.

يستشيط غضبا حين يتذكر أخاه. أوزوريس. ذلك الرجل الذى احبه الشعب والأرض والنيل والسماء. ماذا عمل لينال كل هذا الحب؟ كان غبيا، ضعيفا. لم يحكم بيد من حديد، بل لَان مع شعبه كل اللين. نزل الحقول مع الفلاحين وتفقد المراكب والمعمار مع العمال، يلين معهم مثل العجين الطرى. كان هذا سَخَف. الآن وجب الضرب بيد من حديد؛ ولابد من فرض الضرائب أولا. لكن هؤلاء الفلاحون لا يريدون الدفع. انهم يكرهوننى ويتمنون عودته هو. أوزوريس. يصرخ من الشرفة: لكن أوزوريس لن يعود. لن يعود. لن يعود. يتذكر هذه اللحظة حين أغلق على اخيه الصندوق الذهبى. سمع صوته من الداخل بعيد، خائف، خافت، مستنجد. كانت لحظة النصر، لحظة النشوة. راح فيها مجد اوزوريس وقوته. وانتصر سَت. اله الفوضى. كان سَت قد صنع صندوقا ذهبيا خصيصا بمقاس أخيه وأقام وليمة دعا اليها بعض المقربين ثم أعلن سَت ان من يكون هذا الصندوق على مقاسه، يأخذه هدية. وتسارع المعزومين وطمع أوزوريس. نعم طمع. فدخل الصندوق. حينها توقف القمر فى سماء الحكم. أحكم سَت إغلاق الصندوق ورماه الى النهر. يصرخ سَت وقد احس بالغضب والحقد ينفض جسده كله: هو من أمر بولاية إيزيس على البلاد وقت غيابه فى الفتوحات. فضلها على أنا. انا أخوه. لكنه لم يفهم. لا يهم فهو لن يعود. هذه إيزيس ونفتيس تحاولان إرجاعه للحياة بالسحر، بالحب، بأى شئ، لكنه لن يعود. فإن جواسيسى فى كل مكان يرصدون كل حركة، كل همسة، كل نفس. وكما قطعت جثته وبعثرتها فى ولايات مصر ال١٤، سوف اقطعها ثانية وثالثة، فهو لن يعود.

يعيد النظر للسماء المقابلة له ويسب ضعف أوزوريس وإيزيس والشعب كله. حتى زوجته نفتيس، التى انحازت لأختها إيزيس وساعدتها فى السحر ليعود أوزوريس. لن يعود. لن يعود. اى من يفكر فى مساعدة إيزيس مصيره سجونى وعذاب أليم. وحين تمتلأ السجون، سوف ابنى سجون جديدة على هذه الأراضى المحروقة. سوف املأ المدينة بالسجون. لذا اريد أموالا. أين الضرائب؟ 

غاص سَت فى نهر افكاره الضحل، حتى سمع أصوات خارج استراحته. خاف وفزع ونادى على الحراس. لكن أحدا لم يستجب له. خرج الى الساحة ووجد حورس. حورس الذى جاء بالسحر حين أعادت إيزيس الحياة لأوزوريس فأنجبته ليسترجع العرش. لكن العرش لسَت والحكم لسَت والشرعية لسَت. هذا وإلا الفوضى العارمة. تقدم حورس فى مواجهة عمه وقد أشهر سيفه للنزال وقال: بل انت اله الفوضى وآن الأوان لحلول العدل والحق والمساواة. وقتها فهم سَت أن أوزوريس لم يمت، بل عاد أكثر قوة وعناداً. تذكر إيزيس. كان يجب أن يتخلص منها مع زوجها لكنه لم يتوقع كل هذا الإصرار منها ومن ولدها. آخر مرة تصارعا، فقد حورس عين من عيونه، لكن الإله رع بدلها بعين صقر فتضاعفت قوتها وفاقت الطبيعة. وبدأ النزال ووضح من أول لحظات أنه محسوم لصالح الصقر، فتحول سَت الى فرس نهر، يفترس ويقضم بلا تهاون. لكن سرعان ما كان فرس النهر ملقى على ظهره منكمشاً ومقيداً عن جنب


هلل الشعب. هلل لإبن أوزوريس، اله الزراعة والطبيعة. الذى عدل وانصف الفقير. هلل لابن إيزيس، إلاهة الحب والسلام. التى صارعت الشر والفوضى حتى أعادت الرخاء والاستقرار. كان الشعب قد كره سَت لظلمه وعندما حانت فرصة الانتقام دَوَن الشعب قصة سَت فى صفحة تاريخ واحدة صغيرة منسية  على شكل فرس نهر صغير جداً ملقى على ظهره، مقيد تحت أرجل حورس. وأشاد بحورس على كل صرح وصفحة وفى كل محفل واحتفال. شعب مصر

أؤمن بإيزيس

استلم حكم البلاد وهى فى حالة ضنك، فركز على العمال والفلاحين. أعاد الاهتمام بالزراعة ليضمن إطعام الشعب، واهتم بالصناعة ليبنى أمجاده وأمجاد بلاده. عدل واعتدل. فشبع الناس وأمنوا. وشُيدَت الصروح والسفن والمبانى وعَلَت. واطمئن على حالة البلاد فخرج كعادة الرجال على رأس جيوشه للفتوحات والتوسع بحكمه. تركها هى على عرش مصر. ترك إيزيس، زوجته على عرش مصر. فنهَجت نَهجهه وأعلت كلمة الحق والعدل والمساواة

ارتاح الشعب. لم يعد يحمل الهم. تعلم ان العمل الجاد يجدى. فعمل وابدع. زرع وفلح. بذر وحصد. احب ارضه، فأحبته الأرض. ونعم بثمارها. يَأكل ويُأكِل غيره. فعرف العطاء. شَبع وأشبَع. فعرف الأمان. رضى وأرضَى. فعرف الإيمان. ارتاح الشعب. لم يعد يحمل الهم. تعلم ان العمل الجاد يجدى. فعمل وابدع. عتل وصب. صمم ونفذ. بنى وشيد. أتقن عمله فأبهر. ونعم بجمالها. سَكن وعمَر. فعرف النظام. صنَع ونفَع. فعرف الإتقان. فهم وهندس. فعرف الخلود

هنئ الشعب. نعم، فهذه هى الاسطورة. حكمت فعدلت فنمت لكنك لم تأمن يا أوزوريس. حكمتى فعدلتى فنمتى لكنك لم تأمنى يا إيزيس. امتدت يد الحقد فنالت أوزوريس وأخفته فى صندوق أصم يجوب شريان البلاد، وقطعته اربعة عشر قطعة، ليتفرق فى كل بقعة ولا يجد حتى السحر له طريق جره. خرجت إيزيس من القصر ماشية على قدميها. تعرف انها لن تعود الا واوزيريس فى يدها. تاركة كرسى العرش لسَت، فليهنأ به ودماء أخيه ملطخة إياه. تزرف الدموع غزيرة، فيفيض النيل ويهديها الى كل قطعة فى مرساها. ظلت تجوب البلاد حتى لقهاها الصندوق ولاقته. حوطته بجناحيها، قالت لو اعلم ان الموت كان ليأخذك منى، لما خفضت عنك جناحى الحماية أبدا. وسحرت وسحرت وسحرت. جاءت بأختها نفتيس وسحرت معها حتى أعادتا أوزوريس الى الحياة لتحمل فى حورس ولا يختفى الخير ويقهر. وجاء حورس ليتم مشوار أبويه. ليحارب الشر. ليحارب عمه سَت.

انتظرت ايزيس السبع أيام الأولى لوضعها حتى اطمأنت على استقرار صحة وليدها. وعند احتفال السبوع عرفت أن الفرج قريب، فابتسمت لأول مرة منذ فراق الحبيب. إيزيس التى لا تكل ولا تمل. خسرت الزوج فأعَدت الابن لإكمال المشوار وارساخ دولة الحق. وكما حكمت مصر بالعدل والحق والمساواة، أنشأت ابن على المثل نفسها. أعدته للحق بالحق، فعدة الحق تبدأ بالفصل بين الحق والباطل ثم كلمة ثم خطوة ثم عمل ثم دعوة. عدة الحق مشوار حياة يبدأ مع ميلاد ضوء ينير القلب ويمتد ليوم يقف بين يَدَى رب كريم. هى، من تعلمت الحكم الرشيد من زوجها، فدافعت عنه وأصرت على استمراره. فهى إلاهة السلام. هى، من أحبت شعبها وتفهمت طبيعته وظروفه، فلانت وتفهمت. فهى إلاهة الحب. تفهم وجوب انتصار الخير ليعيش الشعب وينعم. تفهم ان رخاء الشعوب هو اساس الاستقرار. تفهم ان رعاية مصالح الشعوب هى واجب الحكام. تفهم ان الحكم مسؤلية وليست منحة. تفهم ان كلمة الحق واجب وليس خيار، مهما غلى ثمنها وشحت.

وقف الشعب فى القاعة المفتوحة يهلل ويرحب بقدوم إيزيس. فرح بها حقاً لانه عهد الخير فى عهدها. فاختارها ونبذ الشر. لم يثور ضد الشر. لكنه انحاز للخير يوم عاد وقهر اله الشر. ذاك اليوم حين ضرب حورس عنق سَت وانقلب الأخير فرس نهر مهزوم مكوَر على ظهره. فحمل الشعب حورس فوق الاعناق وحاباه. بل وعبده. فالمصرى يعبد اله يحبه، فيعلى شأنه ويخلده. ويعبد اله يتقى شره، فيمحيه من ذاكرة التاريخ فور إبادته. هو هو، نفس الشعب المصرى الذى خلد إيزيس وأوزريس على مر آلاف السنين، هو الذى محى اى ذكرى لسَت الا من فرس نهر مقلوب على ظهره، مغلوب مكروه فى زاوية منسية فى نفس التاريخ

عاش الخير بقوة عزيمة إيزيس ومثابرتها. انتصر الخير بوعيها وفهمها للأمور وحبها للشعب ولزوجها. كان يمكنها ان تنحسر وتترك جناحها ينكسر أكثر من مرة أمام جبروت سَت. ولكنها لم تيأس حتى وصل الخير سُدة الحكم. لذلك فأنا أؤمن بإيزيس. أؤمن انها المخلصة الواعية المثابرة القادرة على حماية الخير وانتصاره واستمراره. أؤمن انها القادرة على زرعه وتربيته فى النفوس وهيمنته على المجتمع. أؤمن انها العارفة بالمصلحة للجميع، المتوافقة على تقسيم الخير حتى ينعم الكل، الرافضة الظلم لأى فرد تحت جناحيها. فهى حامية الخير. وهى نبع الحب

لذلك انا أؤمن بإيزيس


إيزيس كل عصر وكل بيت فى مصر

حتشبسوت يا حتشبسوت

دخلت النادبات تندبن وتنوحن وتولولن. ثم انشقت عنهن البعض راكعات على الأرض، يرفعن التراب بأيديهن وينثرونه فوق رؤوسهن. مات. مات. مات. تنوح النواحات. مات. مات. مات الملك. تندب النادبات. والصراخ يزاحم الهواء والعفرة تخنق النفوس. الكل متأثر والكل حزين لفراق الملك. الكهنة وقائد الجيش. النبلاء من الكتاب والظباط. الكل يخنق دموعه فى عينيه فيحجب هذه الابتسامة الوحيدة الموحودة. ابتسامة حتشبسوت

فى وسط هذه الزوبعة، كان حلم حتشبسوت يتحول الى حقيقة. حلم حكم مصر. طالما حلمت بهذا الصولجان. طالما تخيلت نفسها جالسة على العرش. عرش مصر. وطالما انتظرت وخططت لهذه اللحظة. وهى الآن مستعدة كل الاستعداد. والسؤال الآن: هل مصر مستعدة لحكم حتشبسوت؟ لا تهمها الاجابة فهى أعدت العدة وجاهزة للنزال. أخفت ابتسامتها سريعا تحت ستار الحزن الزائف. وتركت دموعا تنذرف على وجنتيها المعبئتين بالكحل. لم يعرف الحضور اذا كانت دموع حزن ام دموع فرح. لكن آثار الكحل السايح أثبتت التأثر وانتهى الأمر

انصرف الجميع وجلست تعد العدة. حتى يتثنى لها الوصول الى الحكم، يجب ان تحصل على ثلالث: صولجان الحكم، ومفتاح الحياة وعمود دجيب. لكن قبل التفرغ لتحصيلهم، يجب ان تزيح  من طريقهاابن الملك، الحاكم الشرعى للبلاد. فأعلنت ان يجب إرسال تحتمس لتعلم فنون القتال حتى يؤهل لحكم البلاد. وتنفست الصعداء فجلست تنصب شباكها بحبكة وحكمة

أمرت الى النبلاء ان يحضروها. دعتهم الى حفل عظيم مقنن بلون الحداد، ينُم ضِمنيا على مميزات كثيرة وخير اكثر فى انتظارهم. طلبت اليهم توزيع 'الزيت والسكر' على الرعايا باسم حتشبسوت، ملكة مصر. طلبت منهم إغداق الناس بالعطايا حتى يميلون لها ويرتضون حكمها. وشرعت فى الحديث عن تجارات مربحة تمع بلاد بونت نتظر اولاد الذوات، سوف تزيد الثروات ويعم الخير على الجميع. لمعت فكرة التجارة فى سماء النبلاء. فمصر بلد زراعية وصناعية من الدرجة الأولى، التوسع فى التجارة يجعل منهم رجال اعمال ويزيد ثرواتهم. خرجوا من القصر فى سعادة عارمة وبدأوا فى تنفيذ الأوامر وآغداق العمال والفلاحين بالزيت والسكر باسم حتشبسوت. وجدت فى يدها صولجان الحكم

توجهت الى المعبد حيث التقت بالكاهن المقرب لها. لقد بدأ لتوهه الثلاث اشهر المقررة سنويا فى عمله بالمعبد ولابد ان ينهوا تنفيذ الخطة قبل تفرغه للزراعة باقى السنة. همست له بأن جاء وقت التنفيذ وانه لا مجال للتراجع. وحددوا موعد رأس السنة الفرعونية للإعلان للشعب ان حتشبسوت هى ابنة الرب وان حكمها لمصر هو امر الاهى لابد ان ينصاع له المصريين. كانت فكرة جهنمية قد بدرت لهذه المرأة الذكية، وطاوعها الكاهن لما يعرف عنها من سخاء واغداق على من يواليها. وفى اليوم المنشود، دخل المصريون المعبد، كل يحمل كيس شعير جديد قد أهدته إياه حتشبسوت استهلالا للسنة الجديدة. استمعوا الى خطاب الكاهن وهللوا وصفقوا له. فتشجعت حتشبسوت ودخلت تلقى أول كلمة كملكة من قدس الأقداس. هلل الشعب للملكة فأعادت الإغداق عليهم بالعيش والنبيذ حتى اكتفوا وغادروا المعبد ينشدون ويحلفون بالملكة الجديدةوجدت فى يدها مفتاح الحياة. ينم عن حكم يدوم مدى الحياة

استأذن قائد الجيوش عليها الدخول، فأذنت له. أعلمها انه راضٍ على ردود أفعال النبلاء والشعب وأن الآلهة نصبتها حاكمة للبلاد. فهمت ما يقصد وافرجت عن ابتسامة كبيرة شملت الحياة الدنيا والآخرة معا. قالت له: انت من المقربين. الجنود قد انهكوا فى حروب متكررة السنين الماضية، لذا فقد فكرت ان استعين بهم فى تأمين قوافل التجارة مع بلاد بونت. كانت كلماتها مثل رنين الطبول فى نفسه. قد تعب جيشه على مر السنين فى حروب على أراضى غريبة وفى  بلاد أغرب، التأمين عمل يسير وخيره كثير. لمعت النقود وانعكست ضوئها فى عينيه، فأطرق وابتسم مرحباً وقام لينصرف. وجدت فى يدها عمود دجيب. رمز الاستقرار. الاستقرار على كرسى الحكم

أسرعت حتشبسوت تحمل صولجان الحكم، ومفتاح الحياة وعمود دجيب الى معبدها، وقد بدأ المهندس اعداد رسوماتهشيدت المقبرة على الضف الغربى لطيبة، تجاه غروب الشمس والحياة الأخرى. بدأت تعطى التوجيهات للبناء: أريد أن تُحفر مقاليد حكمى على كل جدار فى المعبد والمقبرة. وأن أُمَثَل على شكل رجل على جدار المعبد. المصريين لم يعتادوا على حكم امرأة، فأنا أول امرأة تحكم مصر، لا اريد اى مصرى ان يشعر ان نظام الحكم يتغيير، اريد المصريين أن يشعروا بالاستقرارثم أمرت برسمها كملك محارب كما تعود المصريون وتدوين التجارة والرواج فى عهدها. فان التاريخ لن يراجع ورائها، لكنه سوف يقيمها. ظلت تحكم حتى ماتت حتشبسوت بالسرطان بعد طول فترة حكم مستقر.  

دخلت النادبات تندبن وتنوحن وتولولن. ثم انشقت عنهن البعض راكعات على الأرض، يرفعن التراب بأيديهن وينثرونه فوق رؤوسهن. ماتت. ماتت. ماتت. تنوح النواحات. ماتت. ماتت. ماتت الملكة. تندب النادبات. والصراخ يزاحم الهواء والعفرة تخنق النفوس. الكل متأثر والكل حزين لفراق الملك. الكهنة وقائد الجيش. النبلاء من الكتاب والظباط. الكل يخنق دموعه فى عينيه فيحجبه هذه الابتسامة الوحيدة الموحودة. ابتسامة تحتمس


حتشبسوت، يا حتشبسوت، قفلوا عليكى يا حلوة تابوت

Monday, January 13, 2014

ثلاث نوافذ وباب

الشعب المصرى شعب متدين بطبعه. قالتها نفرتيتى بثقة لزوجها اخناتون وهى تنسحب من امام النافذة المطلة على الحديقة الواسعة فى القصر الملكى بطيبة. ان رسالة التوحيد بالإله أتون رسالة روحانية عظيمة، توحد قلوب المصريين. لن يعبد الشعب المصرى آلهة عدة، لن يُشيِد لكل إله معبد ولن يُقدِم لكل إله قرابين. سوف يُوَحِد ويُكَرِس روحانياته لآتون فقط. ينصت لها اخناتون مليا، يتفكر فى آتون وسبل عبادته المُستحدثة التى يبتدعها. هو فرعون يكره الترف والشكليات التى تعَوَد أسلافه على ان يُسرفوا فى فخامتها، فأحبوا الذهب والجواهر واستعملوهم فى كل مُتاح. لكن اخناتون مختلف، يقدس الحياة الزوجية، يكره التكلف ويعشق البساطة. همس: آتون، إنك صانع مصور لنفسك بنفسك، ومصور دون أن تصور، منقطع القرين في صفاته مخترق الأبديه، مرشد الملايين إلى السبل، وعندما تقلع في عرض السماء يشاهدك كل البشر. استحسن اخناتون الترانيم، ثم رفع احدى بناته الى حجره، يتضاحكان كعادتهما متناسيا قلقه

الشعب المصرى شعب متدين بطبعه. قال كبير الكهنة لمساعده الموثوق منه وهو يقترب من نافذة المعبد المطل على الساحة الخاوية. لن يقبل ان يُغيِر عقيدته، يترك آلهته الحامية. كيف هذا؟ كيف يمحى عبادة إيزيس وحورس؟ من يُشرِف على تحنيط الموتى غير انوبيس؟ ومن يَسوق الرجل الى زوجته واحبائه فى العالم الآخر غير أوزيريس؟ كيف نعيش بدون تحوت، اله الحكمة؟ وآمون رع؟ كبير الآلهة؟ فى ماذا يفكر هذا المجنون؟ انه يحارب طواحين الهواء. يتقدم المساعد من النافذة وبصوت خفيض يقول: لا يمكن ان نترك اخناتون ونفرتيتى يشِيعون هذه الديانة الآتونية. اننا نعيش من خير القرابين. كل مصرى يأتى امام الباب الخارجى للمعبد ليقرأ طلبات الآلهة على الستلا التى أُحَدِثها بنفسى يوميا، يجتهد حتى يجمع ما يقدر عليه، ليقدمه قربانا للآلهة. اذا انقطعت او تقلصت القرابين، سوف نتضور جوعا. لا يمكن ان نتركه يهنأ بتنفيذ خطته

هذه ليست الرسالة الأولى التى تصلني من اتباعنا من الحيثيين فى الأشهر الأخيرة. زعق قائد الجيوش فى عساكره من نافذته التى تطل على فناء التدريب. فهرع اليه نفرين من ظباطه المقربين، وأسرد: انهم يستنجدون بنا ويطلبون إمدادات لحماية مستعمراتنا فى بلاد الشام وهذا الفرعون الأخرق لا يهتم الا بمشروع التوحيد الذى أكل عقله. لا يفهم ان الحفاظ على أراضى البلاد هو من مهام الفرعون، ليس خياراً. كيف يكون فرعون مصر بهذا الضعف؟ كيف يكون فرعون مصر لا يعبأ بأمان ولاياته من فتوحات آبائه. لقد دفع المصريون دما وموارد كثيرة للسيطرة على هذه الأراضى. فالفرعون المحنك يجب ان يعلم ان أمن مصر لا يستقر الا باستقرار البلدات المحيطة به وخير وسيلة لذلك هو إخضاعها للنفوذ المصرى. هذا الأخرق، سوف يضيع جهد الجيش المصرى وأمجاد أبائه من أجل هذا الذى مس عقله المدعو آتون

اشاح بوجهه عن النافذة لاستقبال كبير المهندسين، أمره اخناتون أن يجمع العمال المهرة ويشيدوا مدينة جديدة للإله آتون. المدينة الفاضلة، بعيدة عن الكهنة الموتورين والضباط المحسورين، سوف يأخذ اخناتون عائلته ويذهب ليتعبد للإله الواحد وسوف يتبعه المصريون جميعا ثم العالم بأكمله. اريد المدينة ان تكون على احدث طراز معمارى. اريد تخطيط عمرانى يبهر الزائر ويليق بإله واحد لا شريك له: آتون. تُزيد نفرتيتى بابتسامة مشرقة: وليكن اسم المدينة الجديدة: أخيتاتون فتكون أفق لعبادة الإله آتون. ولنغير التاريخ المصرى ويبدأ عهد جديد يُحتَسب ثورة دين ومعمار وأدب. يا مهندس مصر، قد وَلى عهد الرسم التقليدى، حين كان يُصوَر كل فرعون على نفس الهيئة المثالية والشكل المكتمل، دائما اسمر، محارب، متين البنية، قاهر لأعدائه. فلا نعرف من الملك من شكله، بل من نقوش اسمه فى الخرطوش فقط. كل هذا لابد ان يتغير، ولنجعل أخيتاتون تؤسس لثورة الفن الواقعى. وليرسم الرسامون اخناتون ونفرتيتى مع بناتهم يتضاحكان تحت آشعة الإله آتون وهو يبارك عمرنا. وليرسموننا بملامحنا الحقيقة. نحيف. بدين. طويل. عريض. جميل. وليبارك الإله آتون ثورتنا المجيدة فإنه اله العطاء الذى لا يكذب ولا يتجمل، هو قرص الشمس يمد أيادِ يأخذ بها القرابين ويمد أياد أخرى يهب فضله على الجميع. من اليوم تبدأ حياة جديدة وتاريخ جديد وديانة جديدة

هب الكاهن من جلسته: اخناتون ونفرتيتى يتحديان كل الأصول. كيف يقول اخناتون انه الوسيط الوحيد بين الشعب وآتون؟ وما لزمتنا إذن؟ وما لزمة هذه المعابد المشيدة؟ هل يظن انه قادر على تحدينا؟ اقسم بحق الإله آمون رع أن نتتبعه ولا نجعله يطرف عين؟ وان نصب عليه لعنة الآلهة فى طيبة او أخيتاتون او اى مكان فى القطر المصرى. فليُرينا إذن قدرة آتون على ردع غضب الآلهة. يدخل المعبد قائد الجيوش غاضباً ثائراً. يسأل أخبار الديانة الجديدة فيبدأ الكاهن الأكبر بصب نقمه من الفرعون ثم تأكيد ان الشعب المتدين بطبعه لن يستمع اليه. فيزيد غضب القائد ويخرج يلعن هذا العصر الذى يرى فيه العجائب

يهمس الرسامون والعمال: الجميلة قد أتت، فتتبسم لهم نفرتيتى فى رضا عند تفقدها العمل فى المدينة الجديدة. وتعلن انها قررت الانتقال الى المدينة على التو والسرعة. آتون. اننا قادمون. العالم كله قادم. وتسمع فى السماء صوت زوجها وهو يرتل اناشيده: "هو الذي يرى ما خلق، والسيد الاحد الذي يأخذ كل الاراضى اسرى كل يوم، بصفته واحد يشاهد من عليها، مضئ في السماء وكائن كالشمس، وهو يخلق الفصول والشهور، وكل البلاد في فرح عند بزوغه كل يوم، كى تسبح له." فتدمع عينيها وترفع يديها الى قرص الشمس، تخاطب آتون أن من أجله هو ألف اخناتون الأناشيد الدينية، وقدم للعالم ثورة فى أدب العصر. تخفض رأسها فى ثقتها المعهودة وتؤكد ان التغيير قادم لا محال

تمر الايام والفرعون مشغول فى تنسيق الأناشيد والملكة مأخوذة فى الإشراف على الجداريات، وقد نسيا كل ما يضيق بهما وكل ما يضيايقهما. هما يتعبدان ويحلمان بالدين الجديد والثورة الحضارية القادمة. سوف يتغير وجه العالم كله فى مصر وآسية والنوبة وكل مكان. شعرت بالإنتشاء لحظة، لكن حينها دفعت وصيفتها المقربة الباب ودخلت تعدو فى ضيق، تقص ما عندها ونفرتيتى تنصت

أطاحت بالصولجان من يد اخناتون فى عصبية غير معهودة وصرخت: اننا نحلم. ان المصريين لم ولن يعتنقوا الآتونية الحق، انهم يتظاهرون فقط ارضائاً لك لأنك الفرعون. هؤلاء الكهنة يحاربون كل مجهوداتنا ويسحبون من تحت يدنا كل شئ. وصيفتى أخبرتنى اليوم، أن كبير الكهنة، يطوف بالبلاد يحدث الشعب عن وجوب الإبقاء على آمون والآلهة، تفاديا لغضبهم. وأن الشعب متجاوب معه. لابد أن نتخلص من الكهنة. لابد أن نقضى على كل كهنة آمنون ونُخلص البلاد منهم. احتقن وجه اخناتون وانفجر غضبه فيها لأول مرة: اننى افعل كل ما باستطاعتى لكنى لن أولوث يدى بالدماء. انتى لا تقدرين مجهوداتى. صرخت فيه انه ضعيف، سلبى، وسوف يؤدى الى ضياع كل جهدهما هبائاً. لم تجد بُداً من ان تلِم أغراضها وتترك القصر الملكى.

استلم مقاليد الحكم وهو فى الثامنة عشرة من عمره. توت عنخ آتون. ابن اخناتون من زوجته الثانية تيى. ثم ما لبس ان غير اسمه الى توت عنخ آمون، ارضاءاً لكهنة آمون بعد ان ضاع النفوذ المصرى على الحدود وأُهمِلت البلاد والديانات. ثم ما لبس ان عاد الى طيبة وأمر بهدم أخيتاتون تماماً ومساواتها بالأرض.  

أوصد الكاهن الأكبر الباب ورائه وهو خارج من حضرة الفرعون فى القصر الملكى وعلى وجهه ابتسامة رضا، وكأنك يا مصر، ما دخلك توحيد.

Sunday, January 12, 2014

لما كان الجنيه ورق

حلِمت بجدتى، فاستيقظت بابتسامة راضية وفتحت علبتى السرية حيث أجمع تذكارات من مختلف مراحل حياتى. أخذت أُدَعبس بها حتى وجدت مليماً كانت أعطته لى فى صغرى لكن لم يكن له قيمة وقتها. سرحت وتذكرت زجاجة الحاجة الساقعة ايام المدرسة لما كان سعرها عشرة قروش. عشرة قروش ورق؟ نعم عندى واحدة هنا. وجَدت الى جانبها جنيه ورق قد طوَيته ورميته على عجلة من كام سنة فقط، فظل الجنيه جديدا لكنه مكرمش. فردته على أمل أن يعود كالجديد. لكنه ارتج فى يدى حتى اننى تركته يسقط على الأرض من فرط الخضة. وسمعت صوت صراخ مكتوم وتحولت الحجرة الى ارض عراء على ضفاف نيل فسيح، يقف امامى تمثال شاهق يدب على الأرض فى زلازل سريعة متتابعة ويزعق فى غضب عارم. وأنا أجرى مفزوعة أحاول الاحتماء بأى شئ

فى وسط هذه الثورة، يتحرك تمثال آخر من مكانه بشئ من الهدوء والخفة يقترب من الأول ويلمسه فيهدأ ويسكن. يحتضن احدهما الآخر فأتبين ان احدهما وهو الأكبر، تمثال لفرعون ممن أستكانوا على الجنيه المصرى عقودا وعلى باب هذا المعبد آلاف السنين والآخر لملكة فرعونية لم أتعرف عليها. ظللت أتباعهما باهتمام وهم يميلون على صخرة وقد بدا لى انهما التقيا من بعد فُرقة من بعد أُلفة. واختبأتُ وراء صخرة أُنصت لما يدور بينهم

قال: كم اشتقت إليك يا نفرتارى، يا جميلة الجميلات فى كل أنحاء البلاد. كم اشتقت إليك. مرت السنين رتيبة، اعرف انك تقفين الى جنبى لكن لا أشعر بوجودك، وقد تحجر كل شئ بيننا وحولنا. ضحكت بعذوبة الفتاة المدللة وبادلته عبارات الغرام، تذكره بالذى مضى ليَغوصا معا فى ضحكات من ذكريات ماضيهما العتيق الدفين. ذكّرَته بأول يوم تقابلوا فيه فى بيت عائلتها النوبية الأصل. قال: وكيف انسى وقد أخفقَت كل محاولاتى ان أرفع عينى عن وجهك الجميل. ضحكت بدلال فقد عرفت انه الحب الخالد من أول لحظة.

قاما من جلستهما وتمشيا داخلين المعبد الكبير. لم يرفع رمسيس يده عن كتف زوجته. ودخلتُ ورائهم دون إحداث صوت. وقفا امام أنشودة معركة قادش. هذه اللوحة الهائلة التى اشرف على نقشها الملك رمسيس بنفسه. كانت ايام عصيبة، همست نفرتارى فى أسى. لكنها علّمَت العالم كيف تُدار الحروب لمصالح البلاد، لا لمصالح شخصية ولا لتخليد اسماء. احتد صوت رمسيس قليلا وهو يكلم نفسه: آه هذا ال'مواتِللى'، ملك الحيثيين، قد عانَدت وتشبثت خمسة عشرة عاماً من الحروب المتواصلة بين المصريين والحيثيين. كل ما كنت اريده انا هو استرجاع أراضى الدولة بعد ان فرط فيها هذا الأبله المدعو اخناتون فسيطرتم عليها انتم الحيثيون سنين طوال. لكنك عَنَدت وحارَبت وخَدَعت سنين طوال، اقتربت منه نفرتارى ودفسَت رأسها عند رقبته: كان هو يدافع ان ارض أجداده لتظل تحت سيادته. خمسة عشر عاماً من الدماء. قُتل مصريون وحيثيون كُثُر. كانت بحور الدماء تتصاعد والغضب فى البلاد يتصاعد ولا مكتسبات ولا انتصارات تُذكر. لم يكن هناك خيار غير معاهدة السلام. تنهد رمسيس وحوطتها بذراعيه: كان الفضل لك فى هذا السلام. فلتشهد الآلهة محاولاتك ومدائبتك على حقن الدماء ومتابعتك لكل بنودها حتى اتفقنا. تعيد وجهها الى اللوحة وقد اتسعت لتساع الحائط الكبير كله وتمر بالتفاصيل وتتذكر المجازر فتنزل دمعات صامتة من عينيها. لكن يقطع حبل أفكارها رمسيس عندما يشير الى جداريته وهو فوق عجلته الحربية وقد وهبه الإله رع يداً ثالثة يخرج بها الأقواس من الجراب المثبت على ظهره، ويداه تعملان بمهارته المعهودة فأصبح أسرع من البرق. قال: كانت هذه أعظم لحظات حياتى. كنت احشد الأسرى والجرحى عشرات كل دقيقة. أحسستُ وقتها اننى أقوى رجل على الأرض.

اعتدلت نفرتارى فى جلستها وقالت له: انت أقوى واعظم رجل على الأرض. ويشهد هذا المكان على ذلك. تسحبه بنعومه من يده وتدخل به قدس الأقداس. وتسترسل: وقفت انت هنا، يوم ذكرى تتويجك على العرش، والشمس تنير وجهك. آية من آيات المعمار المصرى، تنتقل آشعة الشمس بين وجه الإله رع، ثم وجهك ووجه الإله آمون ويظل بتاح جالسا هنا فى الظلامهل نسيت انك أول ملك نَصَبَته الآلهة الهاً ورفعته الى جوارها؟ تبسم رمسيس فى رضا وسحبها بالقرب من قلبه ثانية. فاستكانت. هنا وقف النبلاء من رجال الجيش والكهنة والمثقفين يتقربون الى الآلهة وهم جنبا الى جنب، لم يفرق رمسيس فى المكانة والمعاملة بين أيهم. فهم النبلاء. هم من يحركون الاقتصاد فتروج التجارة والعمالة والفلاحة وهم من يشيعون الأمن فتستقر البلاد وهم من يحركون الروحانيات فيحثوا الناس على التفانى والإتقان. لذا وجب تقربهم منه وتقربهم من الشعب. فإن المثقفون هم من يُشكِلون الرأى العام. والكهنة هم من ينهضون بالمجتمع. ورجال الشرطة والجيش هم من يُقرِون الأمن والإستقرار. كلهم سر تحَضُر شعب رمسيس، وسر حب الشعب له. جاء صوت رخيم من خلفه فى قدس الأقداس يخطب فى الجموع بمناسبة حلول فصل لحصاد 'شيمو'، فينتشر من اصغر قاعات المعبد الى الأكبر فالأكبر حتى يصل الى الفناء الفسيح ليسمعه عامة الشعب وكأنه مكبر صوت معمارى. يصفق الجميع له، فقد أحب شعبه فأحبه وأخلص لهفهنأ الشعب وأمِنت النخبة وطال حكم رمسيس

اتجها ناحية باب المعبد. وقفا مليا يتأملان الجدارية عند المدخل ورمسيس يمسك بشعر اسراه من النوبة والحيثيين، جاءه هتاف شعبه من بعيد: اضرب بيد من حديد. فانتقلت ذاكرته آلاف السنين وهو يضرب ويضرب. والشعب يهلل ويعيد الهتاف. فيقطع أيدى الأسرى ليقدمها قرابيناً للآلهة. والشعب يُزَيط. ورمسيس يشعر بالانتشاء. كم هى عظيمة هذه القوة. كم هو عظيم ان ينتصر ويسحق العدو. ونفرتارى الى جانبه، تهمس: كان يجب ان نَفقِد من أبنائنا الآلاف ومن أبناء آدم آلاف أُخَر حتى يتعلم الجميع ان كل شئ بالخناق الا المواطنة فهى بالاتفاق. مثلما سحقنا أسرى عدونا، سُحق جنودنا الأسرى عند العدو. وعندما عادوا الى أرض مصر بعد معاهدة السلام العظيمة التى أدرجتها مع الأعداء، كانوا قد قُطِعت ايديهم  فضاعت كل سنين التدريب علينا وضاع مستقبلهم العملى، وظلوا عالة على الدولة، يأخذون رواتب بلا انتاج ويتمنون الموت كل يوم. ليتك استبدلتهم بعد ان اكرمتهم فلا يشوه المخلوق كمال صنع الخالق. اطرأ رمسيس ثم امسك بيدها وسكت. هو يعرف ان الانسان يُقَدر القوة ويهابها. يعرف اليوفريا جيدا. ويعرف انها طبيعة الانسان. ويعرف زوجته حق المعرفة بمثلها العليا الرفيعة التى قدرها وأجلها


يعود رمسيس الى جلسته عن مدخل المعبد وتقف نفرتارى الى جانبه، تلتقى العيون فى صمت طويل، يحمل معانى الحب والاشتياق سويا. ثم يعتدلان، فيتحجران ثانية. امسك أنا الجنيه المفرود فى يدى فأكرمشه وأضعه فى العلبة سريعاً. رمسيس ونفرتارى؟