Sunday, March 30, 2014

ميرت ونقطة النور

جاء من على بعيد صوت ملائكى، متواصل كزغاريد النساء، متصاعد كزقزقة العصافير، متناغم كأمواج المحيط، رنان ككركعة الأطفال. جاء من بعيد فى هيئة نغمات منسجمة متنافرة، تملأ الحجرات واحدة تلو الأخرى، تتكاثر وتتكاتف ثم تتبعثر وتنتشر. أشعر أننى لابد ان أقترب منها، ان ألمسها، ان أندمج معها؛ هذه النغمات. لكنى أقرر التحلى بالسكون، والتمتع بالحرمان، والتمسك بالاشتياق. تتحلل التفاصيل من حولى وتتلاشى فى سحابة واحدة كبيرة، خضة، طرية، طيبة، منعشة.

تنطفئ النغمات وتطل 'هى' برأسها داخل حجرة المعبد، فيبدو وجهها مرحا، فرحا، محبا كعهدها. تدير نظرها فى القاعة الفسيحة، تتفحص كل الحضور. تأخذ ثانية تمر دهراً. هل تدخل حتحور وتمتعنا برفقتها؟ هل تتراجع الى حجرتها الخاصة فى معبدها آمرة الجميع بالانصراف آنذاك؟ تتنافس كل الفتايات الحضور على إشراق ابتسامات خالصة لعيونها وانا من الجانب الآخر، عيناى مثبتة عليها، أتمنى مكوثها أكثر من الأخريات. تُحرك أذناها هذه الحركة المنشودة، هاتان الأذنان، أذنا البقرة؛ البقرة بكل ما بها من عطاء وحب ونعومة. تحركت أذناها مفصحة إذن عن رضاها. تمد ساق بدلال معلنة الانضمام الى الجموع ورافعة يدها عالياً تهزز الشخشيخة لتعود وتفجر النغمات مرحة حميمة، تملأ القاعة الفسيحة، وتتراقص على أنغامها فى نعومة وعذوبة. قد تركت فستانها الابيض الحريرى الفضفاض يتطاير بحرية، سامحاً لفتحاته ان تكشف عن رجيلها العاجياتان، ثم تعود الأقمشة لتهابهما فتغطيهما برقة. تتشجع فتاة تلو الأخرى، وتنضم الى الرقصة، مقلدة على قدر المستطاع حركات حتحور. نعم هذه هى حتحور، الهة المرح والرقص والحب. أنضم لهن وأنا أتمنى أن تدوم هذه اللحظة للأبد وأن تظل هذه الطاقة مهيمنة عالجميع الى ما لا نهاية. تتضافر الضحكات مع نغمات الموسيقى، ثم تنفرج فى الأجواء تنثر قطرات ماء منعشة، ثم تعود لتتضافر مُوحدة الفتايات فى روح حتحور. تفرج حتحور عن مرآتها، فتتلهف كل فتاة للنظر فيها والتمعن فى شكلها. ودائما ما تنتشى الفتاة بجمالها، فتزيد من حركاتها وتعلوا أصوات الآلات الموسيقية وتتزايد الضحكات. وحتحور سعيدة مرحة. تمر الخادمات بكؤوس النبيذ، فتشرب البنات وترتوين بنشوة الحياة. ما أحلى الحياة. طبلوا وشخللوا وأرقصوا. ما أحلى الحياة. 

تدور حتحور سريعا فى دائرة كبيرة ونتبعها جميعا، ثم تقف هى تاركة الفتايات تُشكِل الدائرة، وبحركة منها يسكن كل صوت فى الحجرة. الكل يعرف ان اللحظة قد حانت. لحظة تحقيق الأمنية. لحظة تلبية المراد. واليوم أنا التى أملك المراد. تتقدم حتحور لوسط الدائرة وأتقدم فى مواجتها على استحياء، تفُك حتحور عقدة السحر من رسغها، وتبدأ فى التمايل وحدها راقصة، رافعة فى يد شخليلتها وفى اليد الأخرى العقدة وأنا أحدق فى يدها الثانية لكن تتحول حواسى كلها عبيداً لنغماتها وحركاتها وهى تقترب منى. ترفع يدى فى حركة مسرحية وتضع العقدة حولها. لا اشعر بأى شئ. سواد دامس. تنطفئ الأنوار والنغمات والهمسات واللمسات. أشعر، بيد ترتب على كتفى وقد تجمدت حبات عرق على جبينى. أحدهم يهمس فى أذنى: 'ميرت'. هذا اسمى وهذا صوت رجل؟ هل نفع السحر أيتها الإلهة حتحور؟ هل حققتى لى أمنيتى اليوم؟ هل جائنى الحب أخيراّ. افتح عينى، فأجده يصب كل بصره داخل عيناى. ابتسم له وأسحب يده ناوية ضمه الى الرقص والمرح. أحاول الإنصات الى نغمات الشخشيخة والطبول لأعيد الاندماج معها فى اتار واحد، لكنى أجد سكون مريب. أحاول متابعة حركات الرقص البديعة لأتوحد معه ومعها فى مشهد مهيب، لكنى اصطدم بجمود مميت. أُدير عينى فى القاعة أُدَور على حتحور لاستفهم منها، لكنها كانت قد تلاشت تماماً من اى مرأى بصر. مرت هذه اللحظات وانا ماذلت ممسكة بيده، أنوى أن أقوده الى المرح وأعرفه على الرقص، عَلَنا نغرق فى الحب. أعيد النظر الى عينيه، لكننا ندخل فى دائرة ساكنة جامدة من الكون. أشعر بطاقة مريبة تتصاعد فى القاعة وأستشعر لوناً أصفر ينساب على حوائط المعبد، يغطى النقوش والتعاويز والقرابين ووجوه حتحور المحفورة فى كل شبر وفى كل قلب. 

فجأة تصطف الفتايات فى صف متأهب مواجهآ لى فى وضع ندية عارمة. تحولت النظرات المرحة السلسة الحالمة الى نظرات باهتة جامدة. عدا واحدة. تقدمت الىّ فى خطوات محسوبة وعيناها تشع غضباً وكراهية. هذه إذن غريمتى. كان اصفرار المكان قد بلغ زروته فبدا الجميع مصفر من انعكاس اللون على البشرات الخمرية، فى شكل يزيد من رهبة اللحظة. كان أمامى خيارين. إما أن أهرب معه أو أن أردع هذه الغيرة الماكرة. حتى ظهرت 'هى' شامخة، ممشوقة فى زيها العسكرى، قوية، متأهبة. ظهرت سخ-مت. الهة الحرب والإنتقام. ظهرت من الفراغ على هيئة أنثى الأسد، وقد استشعر خوف أولادها حين يقعون فى مأزق، فحضرت لإنقاذهم. جاءت سخ-مت رافعة ذيلها فى الهواء واقتربت منى لتصطف جانبى فى مواجهة باقى الفتايات. أشهرت سيوفها وعصاها فى الهواء وتقدمت مبادِرة بالمواجهة الأولى، معلنة بداية الحرب. كنت ما زلت ممسكة بيده. فكل شئ يمر بسرعة. لكنى قررت أن أنفرد مع سخ-مت فى هذه الحرب وأجنبه المشاركة فيها، فأشرت اليه أن يتوجه الى محراب الحماية، القابع فى قدس الأقداس. طل من الباب ثعبان كوبرا مهيب، فاتح جناحيه على مصرعهما، سكن الحضور حتى احاط الكوبرا برَجُلى واختفا الاثنان وراء إغلاق الباب.

بدأت سخمت تنظم خطواتنا فى حركات انتقام فريدة، فهى آلهة الحرب والانتقام. الانتقام من الحاقدات. والحرب على الموتورات. نشهر العصا سويا، نحطب بها فى خفة وتمكن، نحمى ظهر بعضنا البعض، نكسب أرضاً، نحرز انتصارا يلو الأخر. حتى تبدل صفار القاعة بلون وردى من إثر اسالة دماء من بعض جروح هنا وهناك. كانت قد اختفت من اختفت من الفتايات وهربت من هربت وصارعت من قررت الصمود فنالها ما نالها. فى خطوات خاطفة، وحركات متمرسة، قررت سخ-مت حسم الحرب، فقيدت الباقيات بجروحهن فى وسط القاعة وأعلنت النصر من أعلى رضوخهن. واختفت فى الفراغ كما ظهرت.

جريت ناحية قدس الأقداس، أدفع الباب بلهفة، لأجد كلتا آلهة الحماية نخ-بت وود-جت منصرمين على هيئة كوبرا وحِداية، تقفان فى مواجهة إحداهما للأخرى، وقد افرجت كل منهما عن جناحيها فى مقابل بعض وحَوطَت بهما كرسى عرش ذهبى عظيم و'هو' يجلس عليه فى عزة واباء. انخفضت الآلهتان جنيهما سامحين لعيوننا بالتلاقى، تحرك نحوى ولمس يدى وهمس أسمى ثانية: ميرت. فأنار نقطة فى الهواء، أسَرت قلبى وغمَرت قلبه، فابتسم فى رضا واسلمت أنا جفونى للجاذبية. 

استيقظت على صوت أمى: عملتى ايه يا سُخْمِيتة؟ معقولة اللى انتى سَخْمَتيه ده؟ انتبهت اليها بعد ما أدركت اننى قد غفوت وانا جالسة على كرسى المطبخ أراقب الأكل على النار فارتفعت المياة وفارت حتى اتسخ البوتاجاز وسَخْمَت الدنيا. 


سَخْمَت؟ أكانت أمى معى فى الحلم.

No comments:

Post a Comment