وضعت يدها برفق على كتفه ومدت زهرة اللوتس بخفة تجاه انفه ليستنشق الرائحة العطرة وينتعش بعد يوم شقاء. همست فى مودة: ماذا بك يا نفر-حتب؟ أراك حزين مهموم، لا تُطرِب ولا تطرب كعادتك. أراح كتفه على صدرها وطلب منها الاستمرار فى الغناء. فلا شئ يسرى عنه كربه سوى هذه القعدة على سطح المنزل، بين احضان زوجته الحبيبة وهى تداعب النسمات بغنائها العذب. كانت جميلة، واسعة العينان، خمرية اللون. انسدل شعرها مموجا كثيفا على كتفيها حتى لامسا نهديها البارزين. اشاح بوجهه الى الغروب يشكى لحمرته أحزانه. "يا رع. يا اله الكون وكبير الآلهة. نحن هنا فى قلب الصحراء بعيدا عن ارض مصر الخضراء، نكد ونعمل تارة فى مقابر وادى الملوك وتارة فى مقابر وادى الملكات. نستمد من روحهم الحكمة لإكتمال حياتنا والإيمان بقوة الخالق الذى لا يموت. قد قمنا بإتقان عملنا وتأدية كل واجباتنا لكن هُضِم حقنا وضاع تعبنا. وها أنا فى بيتى جائع وزوجتى وأولادى جوعى." ارتفع صوته ليوقف نغماتها من حوله: هذا ظلم ولكل ظلم نهاية".
***
أخذ يبحث عن ابن انوكى فى فترة الراحة حتى وجده يتوسط مجموعة كبيرة من زملاء وزميلات العمل. اجتمع عدد كبير من النحاتين والرسامين والمهندسين والشيالين حوله وهم يهمسون فى حذر، وقد بدا على حركاتهم التوتر الشديد. اقترب نفر-حتب منهم فبدأ يتبين همهماتهم التى تكن غضب جامح ووعيد بانقلاب هذا الحال الأعوج. علىَ صوت ابن انوكى وهو يندد بالأحوال ويتوعد المسؤولين: "نحن العمال، نترك بيوتنا الرحبة فى المدن والأرض الخضراء فى مصرنا الحبيبة ونأتي هنا الى طيبة بعائلاتنا وزوينا فى الصحراء القفر لنتفنن فى تشييد المقابر، تكون سكن الملوك فى الحياة الأخرى، حتى يستتب الهدوء فوق الأرض وتحتها. اننا خدام مكان الحق نعلن اننا جوعى وعائلاتنا جوعى ولن نرضخ لهذه المذلة من اليوم ولن نعمل حتى توفوا رواتبنا المتأخرة." جاء على صوت الاحتجاج، كبير العمال يهرول وقد انتشر خبر تزمر هذه المجموعة فى وسط عمال اليسار واليمين. "ماذا تفعل يا ابن انوكى؟ ماذا تظن نفسك بفاعل بعد هذه الكلمات؟ لا يوجد قمح ولا عيش. الليبيون سرقوا كل شئ فى غاراتهم على البلاد ولا يجد الملك رمسيس الثالث ما يجود به عليكم. امنعوا التجمع وعودوا الى عملكم الآن فلا فترة راحة لكم اليوم." وجاء الرد جماعى على شكل مسيرة صغيرة تنطلق بقيادة ابن انوكى تطالب العمال والعاملات بالإضراب عن العمل والدخول فى اعتصام مفتوح. وسرعان ما استجاب الباقون فتحولت المسيرة الهزيلة الى حشود من العمال والهتاف يعلوا ويتصاعد فى السماء: "نحن جوعى. نحن جوعى".
عاد نفر-حتب الى بيته يعدوا وهو يحكى لزوجته عن ما حدث فى مكان العمل اليوم ويشرح لها ان العمال افترقوا على ان يجمعوا عائلاتهم ويلتقوا عند معبد الملك تحتمس الثالث حيث يقوموا بالاعتصام خلفه. جمعت ميرت أولادها وانطلق الجميع صوب المعبد. وجدوا أعدادا تقدر بالآلاف تهرول تجاه المدخل الرئيسى لمدينة العمال، تجتاز نقطة حراسة المقبرة الى الساحة الواسعة والهتاف يملأ الأجواء: نحن جوعى. نحن جوعى. لحظ نفر-حتب المسؤولين مزعورين يحاولون تهدئة الحشود ويطالبوهم بالدخول الى المعبد للتفاوض، لكن تصدى لهم ابن انوكى وطلب من الجموع ان يدوروا السور المحيط بمعبد الرامسيوم حتى يصلوا إلي الجزء الجنوبي منه. جاء الكاتب بنتاورت يوزع خمس وخمسين كعكة. لكن العمال لم يتحركوا. "يوجد قرابة الخمسة آلاف فرد جوعى من عمال وعاملات وعائلتهم. نريد طعام أهلنا" هتف عامل وتقدمت عاملة ثانية تقول "أولادنا تتضور جوعا، نريد قمح الآن".
سمعت ميرت صوت دواب الشرطة تقترب، فضمت أولادها إليها فى تأهب. تراجعت الجموع تفسح الطريق لمنتومس رئيس الشرطة الذى وقف يستمع باهتمام الى العمال ووعد ان يحل المشكلة. ذهب ولم يغب. عاد الى الجموع وأعلن ان عمدة طيبة متقاعس ورفض حل المشكلة. "يا عمال مكان الحق. اطلب منكم التجمع للاعتصام في معبد سيتي الأول بالقرنة حتى تتحقق مطالبكم. ونحن الشرطة هنا لحمايتكم". هتفت الجموع مما أزاد الضغط على الإدارة التى حاولت إيجاد حلول مؤقتة فقررت صرف كمية من القمح لكل عامل من المتظاهرين. هلل نفر-حتب وهو يحتضن زوجته. "انتصرنا يا ميرت. انتصرنا." لكنه سمع صوت ابن انوكى من بعيد يشرح ان هذا القمح يرد بعض حقوق العمال وعائلاتهم وأنهم سوف يعودوا الى ديارهم الآن على أن يعودوا اذا لم يصلهم باقى مستحقاتهم. هللت الجموع وانصرفت فرحة بالقمح، مشتاقة الى طعم العيش.
***
جلس رع-حتب كاتب المقبرة الى جانب كبير العمال ونائبه يدون من غاب من العمال فى صباح هذا اليوم كعادته. نظر إليهما بسخرية وقال: هو أسهل انى أدون مين حضر. العمال كلهم غياب انهاردة عشان بيخبزوا عيش". لم يرد كبير العمال. أشاح بوجهه وهو يتمتم بكلمات غير مفهومة تنم عن سخط. ثم استدار الى الكاتب وقد لمعت عيناه بفكرة ماكرة من أفكاره وهو يطلب من الكاتب ان يدون تطور العمل بالمقبرة حتى يرفعه الى الوزير حورى.
يتوافد العمال فى اليوم التالى على المقبرة فى نشاط وقد ردت وجوههم وعلت روحهم المعنوية. يبدأون فى العمل بهمة ونشاط وهم يهنئون بعضهم البعض على انتصارهم ويتباهون بأنهم من أعادوا حقوقهم ولم يرضخوا للظلم. لكن تتسرب أنباء عن مؤامرة تحاك بين كبير العمال المنوط به توزيع الأجور والحصص التموينية والوزير الذى عينه ومحاولة لتشويه العمال والإدعاء انهم متأخرون فى خطط العمل وان رئيس الشرطة قد تم إقالته لتضامنه معهم. يتشاور ابن انوكى مع البعض ثم يعلن للجميع أن يكملوا عملهم اليوم على ان يجتمعوا ليلا فى الاعتصام وهم يحملون المشاعل للتصعيد. فيوافق الجميع ويتوعدون كبير العمال ووزيره الفاسدين. وتستمر أعداد المشاعل فى الزيادة حتى اليوم الثامن والعشرون من الاعتصام. لكن الروح المعنوية قد بدأت تخار وتسائل البعض بهمس: "هل ضاع حقنا؟ هل نموت جوعى؟ هل خسرنا؟ هل اضعنا وقتنا بلا نتيجة؟ صعدت نبرة يائسة ترجح الرجوع للبيوت للراحة لأن مفيش فايدة. وتصاعدت نبرة يائسة من ناحية أخرى تحرض على هدم المعبد واحتجاز الكهنة حتى تتم الإستجابة الى الطلبات. استوعب ابن انوكى انه قد بدأ يفقد السيطرة على الحشود. طلب من نفر-حتب ان يتقصى اخبار الوزير تو، وزير الملك. عرف ان الوزير عائدا من مهمة جمع تماثيل الآلهة من المعابد المحلية جنوبي الأقصر من اجل عيد تتويج الملك الذي كان يقام في منف. توجه الاثنان على الفور الى رئيس الشرطة الجديد نب-سمن وقاما بشرح الموقف وقلقهم من تصعيد الغضب الذى قد يفقد المظاهرة سلميتها. تفهم الأخير الموقف وقام بإجراء مقابلة فورية مع الوزير تو وعرض مطالب العمال المتظاهرين ولم يستطع الوزير سوي إيجاد حل مؤقت وهو صرف نصف الاجور المتأخرة.
لم يهلل الجموع هذه المرة. كانت على وعى كافى انها لن تبرح مكانها حتى تحصل على مستحقاتها كاملة. وقف "بن انوكى" وسط الحشود وهو يعرض المشاكل التى تحدث فى الجبانة من وراء الفرعون، ووجه اتهامات خطيرة لاثنين من المسئولين المهمين وهما وسرحات وبنتاورت وهى سرقة أحجار من مقبرة الملك العظيم رمسيس الثانى وثور مرقط وعليه علامة معبد الرامسيوم ومجامعة ثلاث سيدات متزوجات. كما ألمح إلى تستر الوزير حورى على هذه الجرائم، وطالب العامل بعرض المطالب والاتهامات على رمسيس الثالث لمحاربة الفساد الذى تفشى بين رؤسائهم. فتنطلق الهتافات غاضبة: "نحن جوعى، نحن الجالسين خلف معبد مرن بتاح". أمام المقابر الملكية، يقوم أحد العمال يدعي مس-عا-نخت ويتطاول بالكلام على الملك فيتعرض للعقاب بالضرب من الإدارة لتطاوله على الذات الملكية.
هنا يشعر الوزير تو بتأزم الموقف وعدم قدرة المسؤولين على امتصاص غضب العمال، فيخرج على المتظاهرين يخاطب عقولهم وقلوبهم، يذكرهم انهم المقربون من الملك رمسيس الثالث الذى يتابع عملهم بنفسه لأهميته. ثم يثنى على فنهم المبدع وخدماتهم التى ترسخ للإنسانية عقيدتها فى الحياة الأولى والأخرة. ويشرح تفهمه للظروف القاسية التى يعملون بها من أجل خلود الحضارة المصرية. ويؤكد ان سرقة قوت العمال عمل همجى من أعداء البلاد الليبيين، الذين استغلوا حروب الملك مع الحيثيين قبل المعاهدة فهجموا على البلاد بدنائتهم. لكن هذا ليس عذراً والملك ملتزم بتوفير القوت لعماله الأوفياء بلا شك. وتعهد أخيرا بالتعامل مع الفاسدين بشدة لضمان وصول الحق لأصحابه.
***
شاورت ميرت لزوجها من بعيد وهى تتمايل مع بقية النساء والرجال على موسيقى الهارب والناى. رقصت كما لم ترقص من قبل فى هذه الساحة الكبيرة. الجميع يرقص ويغنى والفرحة عارمة. فالقمح فى مكانه الخاص بخزانة كل عائلة. وكبير العمال الجديد، أبعد ما يمكن عن الفساد، هى تعرفه حق المعرفة. تعرف ذمته وضميره فهو زوجها نفر-حتب. عندما توعده ابن انوكى بان يثور ضده اذا فكر ان يفسد، ضحك الجميع لمعرفتهم بأخلاقه. ضحكت ميرت من قلبها فى طمأنينة. ماذا تأمل من الحياة أكثر من عودة الحق لأصحابه، فتهدأ النفوس ويعم الاستقرار ويتحقق الأمن والأمان.
